سورة النساء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


الرقيب: فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه. ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب.
وقال أبو داود:
كمقاعد الرقباء للضضرباء أيديهم نواهد ***
والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. والرقيب: ضرب من الحيات، والمرقب: المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب. والارتقاب: الانتظار.
الحوب: الإثم. يقال: حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه. قال: المخبل السعدي.
فلا يدخلني الدهر قبرك حوب *** فإنك تلقاه عليك حسيب
وقال آخر:
وإن تهاجرين تكففاه *** غرايته لقد خطيا وحابا
وقيل: الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوَّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج. وفلان يتحوب من كذا يتوقع. وأصل الحوب: الزجر للإبل، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه، وبه الحوبة الحاجة، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة.
مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود. كقوله: ونفروا بعيراً بعيراً، وفصلت الحساب لك باباً باباً، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو، وأجاز الفرّاء أن تصرف، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا.
وقال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكريرها. وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكرّرها، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة: أحدها: ما نقلناه عن سيبويه. والثاني: ما نقلناه عن الفراء. والثالث: ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل. فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدودون غيره.
فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب.
وقد ردّ الناس على الزجاج قوله: أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، فهو معترض من وجهين: أحدهما: زعمه أنها تعرف بلام التعريف، وهذا لم يذهب إليه أحد، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني: أنه مثل بها، وقد وليت العوامل في قوله: فلان ينكح المثنى، ولا يلي العوامل، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل، ولا تقع إلا خبراً كما جاء: «صلاة الليل مثنى» أو حالاً نحو: {ما طاب لكم من النساء مثنى} أو صفه نحو: {أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} وقوله:
ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا ***
وقد تجيء مضافة قليلاً نحو، قول الآخر:
بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر ***
وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل على قلة، وقد يستدل له بقول الشاعر:
ضربت خماس ضربة عبشمي *** أدار سداس أن لا يستقيما
ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث، فلا تقول: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث. عال: يعول عولاً وعيالة، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
له شاهد من نفسه غير عائل.....وحكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجل يعول كثر عياله. ويقال: عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال: أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى: مال، وجار، وكثر عياله، وتفاقم، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر، وعال في الأرض ذهب فيها، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل، ومان من المؤنة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء، تقول: عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني، وباقي المتعدّي من ذوات الواو.
الصدقة على وزن سمرة المهر، وقد تسكن الدال، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز. ويقال: صدقة بوزن غرفة. وتضم داله فيقال: صدقة وأصدقها أمهرها.
النحلة: العطية عن طيب نفس. والنحلة الشرعة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينحل بكذا أي يدين به.
هنيئاً مريئاً: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. ويقال: هنا يهنا بغير همز، وهنأني الطعام ومرّأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: أمرأني رباعياً، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع.
قال سيبويه: هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى. وقال كثير:
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت
قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويوضع في عقره. ومنه قوله:
متبذل تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النقب
والمريء ما يساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة: المريء. آنس كذا أحس به وشعر. قال:
آنست شاة وأفزعها القناص *** عصراً وقددنا الامساء
وقال الفراء: وجد. وقال الزجاج: علم. وقال عطاء: أبصر. وقال ابن عباس: عرف. وهي أقوال متقاربة. السديد من القول هو الموافق للحق منه.
أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتدّ ساعده رماني
المعنى: لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها، وصليته أدنيته منها. التسعير: الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها، ومنه مسعر حرب.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. وقال النحاس: مكية. وقال النقاش: نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري: آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: {أني لا أضيع عمل عامل منكم} على المجازاة. وأخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى: دعاء عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي. ونبه بقوله: من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس: العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده، وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل: المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله: {تساءلون به والأرحام} لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول: أنشدك بالله وبالرحم. وقيل: المراد المؤمنون نظراً إلى قوله: {إنما المؤمنون إخوة} وقوله: «المسلم أخو المسلم» والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية.
قيل: وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين: إحداهما: هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. وبدأ بالمبدأ بأنه الأول، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوع


{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} لما أبهم في قوله: {نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} في المقدار والأقربين، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين، وبدأ بالأولاد وإرثهم من والديهم، كما بدأ في قوله: للرّجال نصيب مما ترك الوالدان بهم. وفي قوله: يوصيكم الله في أولادكم إجمال أيضاً بينه بعد. وبدأ بقوله: للذكر، وتبين ما له دلالة على فضله. وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بما يدلون به من الولدية.
وقد اختلف القول في سبب النزول، ومضمن أكثر تلك الأقاويل: أنهم كانوا لا يورّثون البنات كما تقدم، فنزلت تبييناً لذلك ولغيره. وقيل: نزلت في جابر إذ مرض، فعاده الرسول فقال: كيف أصنع في مالي؟ وقيل: كان الإرث للولد والوصية للوالدين، فنسخ بهذه الآيات. قيل: معنى يوصيكم يأمركم. كقوله: {ذلكم وصاكم به} وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام، وطلب حصوله سرعة، وقيل: يعهد إليكم كقوله: {ما وصى به نوحاً} وقيل: يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقاً بقوله {للرّجال وأولوا الأرحام} وقيل: يفرض لكم. وهذه أقوال متقاربة.
والخطاب في: يوصيكم، للمؤمنين، وفي أولادكم: هو على حذف مضاف. أي: في أولاد موتاكم، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أن يخاطب الحي، ولا يحتاج إلى حذف مضاف. والأولاد يشمل الذكور والإناث، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث، فأما الرّق فمانع بالإجماع، وأما الكفر فكذلك، إلا ما ذهب إليه معاذ من: أن المسلم يرث الكافر. وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه، لا يرث من الدية، هذا مذهب ابن المسيب، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا يرث من المال، ولا من الدية شيئاً. واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير، فقال: لا يرث.
وقال الجمهور: إذا علمت حياته يرث، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود. واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الجنين فإن خرج ميتاً لم يرث، وإن خرج حياً فقال القاسم، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، والشافعي: يستهل صارخاً، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس. وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي: إذا عرفت حياته بشيء من هذه، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث.
وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم. وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم، ولا خلاف في توريثه، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى، وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما المفقود فقال أبو حنيفة: لا يرث في حال فقده من أحد شيئاً.
وقال الشافعي: يوقف نصيبه حتى يتحقق موته، وهو ظاهر قول مالك: وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعاً، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن، والظاهر أنه مجاز. إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطئ لشارك ولد الصلب مطلقاً، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم.
وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أنَّ الجد ليس له حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق. ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد، وعند مالك يدخل، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب.
وللذكر: إما أن يقدّر محذوف أي: للذكر منهم، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم. ومثل: صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل.
قال الفراء: ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم. وقال الكسائي: ارتفع مثل على حذف أن تقديره: أنّ للذكر. وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان، فسيأتي حكم ذلك. ولم تتعر الآية للنص على هاتين المسألتين.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: نصيب الذكر هنا هو الثلثان، فوجب أن يكون نصيب الانثيين. وقال أبو بكر الرازي: إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى. وقيل: حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى، وإلا لزم حظ الذكر مثل حظ الأنثى، وهو خلاف النص، فوجب أن يكون حظهما الثلثين، لأنه لا قائل بالفرق. فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان. ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين. وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة، وحكم الأختين، ولم يذكر حكم الأخوات، فصارت الآيتان مجملتين من وجه، مبينتين من وجه.
فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت.
ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك، لأن البنت لما كانت أشدّ اتصالاً بالميت امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقوى. وقال الماتريدي: في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله: {وإن كانت واحدة فلها النصف} فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلاً النصف، هو الكل انتهى.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: يوصيكم بالتشديد. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج: ثلثاً والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط، والجمهور بالضم، وهي لغة الحجاز وبني أسد، قاله: النحاس من الثلث إلى العشر. وقال الزجاج هي لغة واحدة، والسكون تخفيف، وتقدير الآية: يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك الموروثون أن انفرد بالإرث، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
{فإن كنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} ظاهر هذا التقسيم أنّ ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث، وقصد هنا بيان حكم الإناث، أخلص الضمير للتأنيث. إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد، فعاد الضمير على أحد القسمين، وكأن قوله تعالى: {في أولادكم} في قوة قوله: {في أولادكم} الذكور والإناث. وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله: ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله: {والوالدات يرضعن} فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى، واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله: نساء وحده، وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التثنية. وأجاز الزمخشري أن يكون نساء خبراً ثانياً، لكان، وليس بشيء، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد. ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير، أن كان الزيدون رجالاً، وهذا ليس بكلام. وقال بعض البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. وقدره الزمخشري: البنات أو المولودات.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على أن كان تامّة؟ (قلت): لا أبعد ذلك انتهى. ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدّم، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد، أو ممنوع ألبتة.
لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما، وفي باب التنازع على ما قرر في النحو. ومعنى فوق اثنتين: أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد، فليس لهن إلا الثلثان. ومن زعم أن معنى قوله: نساء فوق اثنتين، اثنتان فما فوقهما، وأنّ قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية، أو أنّ فوق زائدة مستدلاً بأن فوق قد زيدت في قوله: {فاضربوا فوق الأعناق} فلا يحتاج في ردّ ما زعم إلى حجة لوضوح فساده. وذكروا أنّ حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات. قالوا: ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر، وما احتجوا به تقدّم ذكره. وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت: «أنه صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين الثلثين» وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن.
{وإن كانت واحدة فلها النصف} قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان، أي: وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى. وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل. وقرأ السلمي: النصف بضم النون، وهي قراءة عليّ وزيد في جميع القرآن. وتقدّم الخلاف في ضم النون وكسرها في {فنصف ما فرضتم} في البقرة. وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب، والأخت الشقيقة أو لأب، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف.
{ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون، فذكر أنّ الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد، وأبواه هما: أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس، وهي تثنية لا تقاس. وشمل قوله: وله ولد الذكر والأنثى، والواحد والجماعة.
وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان، وباقي المال للولد ذكراً كان أو أنثى. والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضاً، والباقي تعصيباً. وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا: السدس لكل واحد من أبويه، والباقي للبنت أو الابن، إذ الولد يقع على: الذكر، والأنثى، والجد، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم، والواحدة من ولد الأم، والجدات كالأب مع البنت في السدس. وقال مالك: لا ترث جدة أبي الأب. وقال ابن سيرين: لا ترث أم الأم.
والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه. ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل. وتبيين أن السدس لكل واحد، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس، وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس، إذ تكرر ذكرهما مرتين: مرة بالإظهار، ومرة بالضمير العائد عليهما. قال الزمخشري: والسدس مبتدأ، وخبره لأبويه، والبدل متوسط بينهما انتهى. وقال أبو البقاء: السدس رفع بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وهذا البدل هو بدل بعض من كل، ولذلك أتى بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا. بل تقول: يصنع كذا. وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه، كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا، إذا أعربنا كلا بدلاً. وكما تقول: إنّ زيداً عينه حسنه، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل. ولو كان التركيب: ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة، وظاهر قوله: ولأبويه، أنهما اللذان ولدا الميت قريباً لا جداه، ولا مَن علا من الأجداد. وزعموا أن قوله: أولادكم، يتناول من سفل من الأبناء. قالوا: لأنّ الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع، بخلاف قوله: في أولادكم. وفيما قالوه: نظروهما عندي سواء في الدلالة، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريباً، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريباً، لا من علا. أو إلى حمل اللفظ على مجازه، فيشترك اللفظان في ذلك، فينطلق الأبوان على من ولداه قريباً. ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريباً. ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أنَّ ابن الابن لا يرث مع الابن، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده، ولا الحدة منزلة الأم.
{فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} قوله: فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله: {إن كان له ولد} وورثه أبواه دليل عل أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام، لا ولد ولا غيره، فيكون قوله: وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال.
فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول: هذا المال لزيد وعمرو، لزيد منه الثلث، فيعلم قطعاً أن باقيه وهو الثلثان لعمرو. فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو: الثلث بالإضافة إلى الأب. وقال ابن عباس وشريح: للأم الثلث من جميع المال مع الزوج، والنصف للزوج، وما بقي للأب، فيكون معنى: وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد، وهذا مخالف لظاهر قوله: وورثه أبواه. إذ يدل على أنهما انفردا بالإرث، فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذ انفردا بالإرث، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح: يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين، فتصير أقوى من الأب، وتصير الأنثى لها مثلاً حظ الذكر، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس.
وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف. فمن قال: أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم: أبو بكر رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته. وقال بمقالته بعد وفاته: أبي ومعاذ، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن الزبير عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور. وذهب علي، وزيد، وابن مسعود: إلى توريث الجد مع الإخوة، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب، إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئاً في قول: زيد، وهو قول: مالك، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وأبي يوسف. كان عليّ يشرك بين الجد والإخوة في السدس، ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور: إلى أنَّ الجد يسقط بني الإخوة من الميراث، إلا ما روي عن الشعبي عن علي: أنه أجرى بين الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة.
وأما أم الأم فتسمى أماً مجازاً، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعاً، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنتها. فروي عن عثمان وعلي وزيد: أنها لا ترث وابنتها حية، وبه قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي عن عثمان وعلي أيضاً، وعمر وابن مسعود وأبي موسى وجابر: أنها ترث معها. وقال به: شريك، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر. وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم. وقرأ الإخوان: فلأمه هنا موضعين، وفي القصص {في أمها} وفي الزخرف: في {أم الكتاب} بكسر الهمزة، لمناسبة الكسرة والياء. وكذا قرأ من {بطون أمهاتكم}
في النحل والزمر والنجم، أو {بيوت أمهاتكم} في النور. وزاد حمزة: في هذه كسر الميم اتباعاً لكسرة الهمزة وهذا في الدرج. فإذا ابتدأ بضم الهمزة، وهي قراءة الجماعة درجاً وابتداء. وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء، والكسر لغة. وذكر الكسائي والفراء: أنها لغة هوازن وهذيل.
{فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، المعنى: أنه إذا كان أب وأم وإخوة، كان نصيب الأم السدس، وحطها الإخوة من الثلث إلى السدس، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الإخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس، ولا يأخذه الأب. وروي عنه: أن الأب يأخذه لا الإخوة، لقول الجماعة من العلماء. قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر، لأن إخوة جمع أخ. وقد ذهب إلى ذلك طائفة فقالوا: الإخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التغليب. فإذن يصير المراد بقوله: إخوة، مطلق الإخوة، أي: أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكوراً أو إناثاً، أو الصنفين. وظاهر لفظ إخوة، الجمع. وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعداً، وهو قول: ابن عباس: الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعداً.
ومنشأ الخلاف: هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، والبحث فيها في علم النحو أليق. وقال الزمخشري: الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالأخوة عليه انتهى. ولا نسلم له دعوى أن الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل. وظاهر إخوة الإطلاق، فيتناول الإخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل. وذهب الروافض: إلى أنّ الإخوة من الأم لا يحجبون الأم، لأنهم يدلون بها، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها. واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله: فإن كان له إخوة، لأنها إذا حرمت الثلث بالإخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى.
{من بعد وصية يوصى بها أو دين} المعنى: أنَّ قسمة المال بين من ذكر إنما تكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية، أو بدين. وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً، ويبقى الباقي بينهم بالشركة، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة. وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال.
ويبين أيضاً ذلك قوله: {للرجال نصيب} الآية. إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخاً لهذه الآية، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث. وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث، فإن لم يكن له وارث، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: لا تجوز الوصية إلا في الثلث. وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز بجميع ماله، لأنّ الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره.
وقد استدل بقوله: من بعد وصية يوصي بها أو دين، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك. وفي هذا الاستدلال نظر. والوصية مندوب إليها، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت. وادعى قوم وجوبها. وتتعلق من بمحذوف أي: يستحقون ذلك، كما فصل من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وهو مضارع وقع موقع الماضي. والمعنى: من بعد وصية أوصى بها. ومعنى: أو دين، لزمه. وقدم الوصية على الدين، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماماً بها وبعثاً على إخراجها، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقاً على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها، بخلاف الدين. فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ: أو، في الوجوب. أو لأنّ الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له. والدين لا يلزم أن يوجد، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون، فبدئ بما كان وقوعه كاللازم، وأخر ما لا يلزم وجوده. ولهذه الحكمة كان العطف بأو، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له، لكان العطف بالواو، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف، والدين حظ غريم يطلبه بقوة. وله فيه مقال. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى أو؟ (قلت): معناها الإباحة، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك: جالس الحسن، أو ابن سيرين انتهى.
ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين، فدل على أنّ إخراج ما وجب بها سابق على الميراث، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره، أو ما يحتاج إليه من ذلك.
وقرأ الابنان وأبو بكر: يوصي فيهما مبنياً للمفعول، وتابعهم حفص على الثاني فقط، وقرأهما الباقون: مبنياً للفاعل.
{آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} قال ابن عباس والحسن: هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده، وكذا الولد في والديه. وقال مجاهد وابن سيرين والسدي: معناه في الدّنيا، أي: إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة. ونحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار. وقال ابن زيد: في الدنيا والآخرة، واللفظ يقتضي ذلك. وروى عن مجاهد: أقرب لكم نفعاً في الميراث والشفاعة. وقال ابن بحر: أسرع موتاً فيرثه الآخر. وقال ابن عيسى: أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك، وقريب منه قول الزجاج. قال: معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة، ولهذا أتبعه بقوله: {إن الله كان عليماً} حكماً أي عليم بما يصلح لخلقه، حكيم فيما فرض. قال ابن عطية: وهذا تعريض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة.
وقيل: تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث. وقيل: المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة. وقريب من هذا قول أبي يعلى، قال: معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالابناء. وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة: بالوصية، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً. قال: لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني: أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعاً، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه. وهو خطابه. والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين، فليست مما يحدث عنها، وتفسر هذه الجملة بها. ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى، أن يرث مثل حظ الأنثيين، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن، إذ ذاك لما له على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه.
أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعاً، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته. فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن، فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله. وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء.
قالوا: وارتفع أيهم على الابتداء، وخبره أقرب، والجملة في موضع نصب لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه، وهو: أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم، وهي مفعول بتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب، فيكون نظير قوله تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشدّ} وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها {فريضة من الله} انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدراً. {إن الله كان عليماً حكيماً} أي عليماً بمصالح العباد، حكيماً فيما فرض، وقسم من المواريث وغيرها. وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليماً على الحال فقوله: ضعيف، أو أنهار زائدة فقوله: خطأ.
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين} لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول، وميراث الأصول من الفروع، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء. والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب، والسبب الشامل للزوجية والولاء. وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة، فنسخ ذلك. وقدّم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلاله، وبدئ بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء.
ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلاً حظ الأنثى. ومعنى: كان لهن ولد أي: منكم أيها الوارثون، أو من غيركم. والولد: هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو أكثر، وحكم بين الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع.
{ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} الولد هنا كالولد في تلك الآية. والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن، وتنفرد به الواحدة. وظاهر الآية: أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتين من غير عول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس. وذهب الجمهور إلى أنّ العول يلحق فرض الزوج والزوجة، كما يلحق سائر الفرائض المسماة.
{وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس} الكلالة: خلو الميت عن الوالد والوالدة قاله: أبو بكر، وعمر، وعلي، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وقالت طائفة: هي الخلوّ من الولد فقط. وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأوّل. وروي أيضاً عن ابن عباس، وذلك مستقر من قوله في الإخوة مع الوالدين: إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه. ويلزم على قوله: إذ ورثهم بأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص. وقالت طائفة منهم: الحكم بن عيينة، هي الخلو من الولد. قال ابن عطية: وهذا إن القولان ضعيفان، لأنّ من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل. وأجمعت الأمة الآن على أنَّ الإخوة لا يرثون مع ابن ولا أب، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار انتهى.
واختلف في اشتقاقها. فقيل: من الكلال وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء. قال الأعشى:
فيا ليت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من وجى حتى نلاقي محمدا
وقال الزمخشري: والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء. فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة. انتهى. وقيل: هي مشتقة من تكلله النسب أحاط به. وإذا لم يترك والداً ولا ولداً فقد انقطع طرفاه، وهما عمودا نسبه، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه أي: يحيط به من نواحيه كالإكليل. ومنه روض مكلل بالزهر. وقال الفرزدق:
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة *** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال الأخفش: الكلالة من لا يرثه أب ولا أم. والذي عليه الجمهور أنَّ الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا مولود، وهو قول جمهور أهل اللغة صاحب العين، وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة، وابن الأنباري، والعتبي، وأبي عبيدة.
وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ مع الأب والولد. وقطرب في قوله: الكلالة اسم لمن عدا الأبوين والأخ، وسمى ما عدا الأب والولد كلالة، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوا به من جوانبه. ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب، لأنّ أباه قتل يوم أحد فصارت قصة جابر بياناً لمراد الآية. وأما الكلالة في الآية فقال عطاء: هو المال. وقالت طائفة: الكلالة الورثة، وهو قول الراغب قال: الكلالة اسم لكل وارث. قال الشاعر:
والمرء يجمع للغنى *** وللكلالة ما يسيم
وقال عمر وابن عباس: الكلالة الميت الموروث. وقالت طائفة: الورثة بجملتها كلهم كلالة.
وقرأ الجمهور: يورث بفتح الراء مبنياً للمفعول، من أورث مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن: بكسرها مبنياً للفاعل من أورث أيضاً. وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش: بكسر الراء وتشديدها. من ورّث. فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في يورث. وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير: ذا كلالة، لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في يورث. وإن كان معنى الكلالة القرابة، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي: يورث لأجل الكلالة. وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال، والمفعولان محذوفان، التقدير: يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة. وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: يورث كلالة ماله أو القرابة، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضاً، ويجوز في كان أن تكون ناقصة، فيكون يورث في موضع نصب على الخبر. وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة. ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت، أن يكون يورث صفة، وينتصب كلالة على خبر كان، أو بمعنى الوارث. فيجوز ذلك على حذف مضاف أي: وإن كان رجل موروث ذا كلالة. وقال عطاء: الكلالة المال، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول. وقال ابن زيد: الكلالة الوراثة، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره: وراثة كلاله.
وقد كثر الاختلاف في الكلالة، وملخص ما قيل فيها: أنها الوارث، أو الميت الموروث، أو المال الموروث، أو الوراثة، أو القرابة. وظاهر قوله: يورث أي: يورث منه، فيكون هو الموروث لا الوارث. ويوضحه قراءة من كسر الراء. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فما وجهه؟ (قلت): الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. (فإن قلت): فالضمير في قوله: فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ؟ (قلت): إلى الرجل وإلى أخيه وأخته، وعلى الأول إليهما (فإن قلت): إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت: السدس له، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخيير، فقد سويت بين الذكر والأنثى انتهى كلامه.
وملخص ما قال: أن يكون المعنى: إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذين من أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة على رجل، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى، والتقدير: أو امرأة تورث كلالة. وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. والضمير في: وله، عائد على الرجل نظير: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول: زيد أو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجهاً ثالثاً وهو: أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضمير إليهما جميعاً، وإلى أحدهما أيهما شئت. تقول: مَن كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} وقد تأوله من منع الوجه. وأصل أخت إخوة على وزن شررة، كما أن بنتاً أصله بنية على أحد القولين في ابن، أهو المحذوف منه واو أو ياء؟ قيل: فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء: ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى. ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث. وظاهر قوله: وله أخ أو أخت الإطلاق، إذ الإخوة تكون بين الأحفاد والأعيان وأولاد العلات، وأجمعوا على أنّ المراد في هذه الآية الإخوة للأم. ويوضح ذلك قراءة أبيّ وله أخ أو أخت من الأم. وقراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم، واختلاف الحكمين هنا، وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له، إذ هنا الإبنان أو الإخوة يشتركون في الثلث فقط ذكوراً أو إناثاً بالسوية بينهم. وهناك يحوزون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، والبنتان لهما الثلثان، والضمير في منهما الظاهر أنه يعود على أخ أو أخت. وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة واحد أخ وأخت، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس، ولهم الباقي أولاً فلهم الثلث. أو أخوين لأم أشقاء فهذه الحمادية. فهل يشترك الجميع في الثلث، أم ينفرد به الأخوان لأم؟ قولان، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه، وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال بالانفراد: علي وأبو موسى، وأبي، وابن عباس.
{فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت، أي أكثر من واحد. لأنّ المحكوم عليه بأن له السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعاً السدس، فتصح الأكثرية فيما أشير إليه وهو ذلك، بل المعنى هنا بأكثر يعني: فإن كان من يرث زائداً على ذلك أي: على الواحد، لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى، لتنافي معنى كثير وواحد، إذ الواحد لا كثرة فيه. وفي قوله: فإن كانوا، وفهم شركاء غلب ضمير المذكر، ولذلك جاء بالواو وبلفظ، فهم هذا كله على ما قررت فيه الأحكام. وظاهر الآية: أنه إذا ترك أخاً أو أختاً، أي أحد هذين، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوا في الثلث، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية.
{من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله} الضمير في يوصي عائد على رجل، كما عاد عليه في: وله أخ. ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث. ومن فسر قوله: {وإن كان رجل} أنه هو الوارث لا الموروث، جعل الفاعل في يوصي عائداً على ما دل عليه المعنى من الوارث. كما دل المعنى على الفاعل في قوله: {فلهن ثلثا ما ترك} لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث، لا الوارث. والمراد: غير مضار، ورثته بوصيته أو دينه. ووجوه المضارة كثيرة: كان يوصي بأكثر من الثلث، أو لوارثه، أو بالثلث، أو يحابى به، أو يهبه، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فراراً عن وارث محتاج، أو يقر بدين ليس عليه. ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا بعد مضاراً، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله: {من بعد وصية يوصي بها} {وتوصون ويوصين} ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة. قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم» وقال قتادة: نهى الله عن الضرار في الحياة وعند الممات.
قالوا: وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي، والعامل فيهما يوصي.
ولا يجوز ما قالوه، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله: أو دين. لأن قوله: أو دين، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الإعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ: يوصَى بفتح الصاد مبنياً للمفعول، لا يصح أن يكون حالاً لما ذكرناه، ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف. لو قلت: تُرسل الرياح مبشراً بها بكسر الشين، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشراً بها. والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى، ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين، وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل: يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه، كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال: أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي: يوصيكم الله بذلك وصية، كما انتصب {فريضة من الله}.
وقال ابن عطية: هو مصدر في موضع الحال، والعامل يوصيكم. وقيل: هو نصب على لخروج من قوله: {فلكل واحد منهما السدس} أو من قوله: {فهم شركاء في الثلث} وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية، لكنه ما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية، فخفض وصية بإضافة مضار إليه، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى: يا سارقا في الليلة، لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في: وصية من الله، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به.
{والله عليم حليم} عليم بمن جار أو عدل، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله: الزمخشري. وفيه دسيسة الاعتزال أي: أنّ الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها. والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذه بالذنب كما يقوله أهل السنة. وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه البتة. وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله: عليم، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه، وأنّ ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب، إلا ويردف بما دل على العفو.
وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية، أو بواسطة فهو الكلالة. فتقدّم الأول على الثاني لأنه ذاتي، والثاني عرض، وأخّر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية، ولكون اتصالهما بغير واسطة، ولأكثرية المخالطة. انتهى ملخصاً من كلام الرازي في تفسيره.
{تلك حدود الله} قيل: الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدّمة في المواريث. والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث، وجعل هذه الشرائع حدوداً، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها. وقال ابن عباس: حدود الله طاعته. وقال السدّي: شروطه. وقيل: فرائضه. وقيل: سننه. وهذه أقوال متقاربة.
{ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} لما أشار تعالى إلى حدوده التي حدَّها قسَّم الناس إلى عامل بها مطيع، وإلى غير عامل بها عاص. وبدأ بالمطبع لأن الغالب على من كان مؤمناً بالله تعالى الطاعة، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامّة، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، ولأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ به وأن يعتني بتقديمه. وحمل أولاً على لفظ من في قوله: يطع، ويدخله، فأفرد ثم حمل على المعنى في قوله: خالدين. وانتصاب خالدين على الحال المقدرة، والعامل فيه يدخله، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله.
قال ابن عطية: وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من، وعكس هذا لا يجوز انتهى. وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري: وانتصب خالدين وخالداً على الحال. (فإن قلت): هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟ (قلت): لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بد من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو: فيها انتهى. وما ذكره ليس مجمعاً عليه، بل فرع على مذهب البصريين. وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو. وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذ بمذهب الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: ندخله هنا، وفي: ندخله ناراً بنون العظمة. وقرأ الباقون: بالياء عائداً على الله تعالى. قال الراغب: ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدّنيا الموصوف بقوله: {قل متاع الدنيا قليل} والصغير والقليل في وصفهما متقاربان.
{ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} لما ذكر ثواب مراعي الحدود ذكر عقاب من يتعداها، وغلظ في قسم المعاصي، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله: ويتعدّ حدوده، وناسب الختم بالعذاب المهين، لأن العاصي المتعدّي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله.
وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان، ولهذا قالوا: المنية ولا الدنية. قيل: وأفرد خالداً هنا، وجمع في خالدين فيها، لأنّ أهل الطاعة أهل الشفاعة، وإذا شفع في غير دخلها، والعاصي لا يدخل النار به غيره، فبقي وحيداً انتهى.
وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع: التفصيل في: الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: للرجال نصيب الآية. والعدول من صيغة: يأمركم الله إلى يوصيكم، لما في الوصية من التأكيد والحرص على اتباعها. والطباق في: للذكر مثل حظ الأنثيين، وفي: من يطع ومن يعص، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: مما ترك أي: ترك الموروث. والتكرار في: لفظ كان، وفي فريضة من الله، أن الله، وفي: ولداً، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دين، وفي: وصية من الله إن الله، وفي: حدود الله، وفي: الله ورسوله. وتلوين الخطاب في: من قرأ ندخله بالنون. والحذف في مواضع.


العشرة: الصحبة والمخالطة. يقال: عاشروا، وتعاشروا، واعتشروا. وكان ذلك من أعشار الجذور، لأنها مقاسمة ومخالطة. الإفضاء إلى الشيء: الوصول إلى فضاء منه، أي سعة غير محصورة. وفي مثل الناس فوضى فضى أي: مختلطون، يباشر بعضهم بعضاً. ويقال: فضاً يفضو فضاًء إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو. المقت: البغض المقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. العمة: أخت الأب. الخالة: أخت الأم، وألفها منقلبة عن واو، دليل ذلك قولهم: أخوال في جمع الخال، ورجل مخول كريم الأخوال. الربيبة: بنت زوج الرجل من غيره. الحَجر بفتح الحاء وكسرها: مقدّم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في السير والحفظ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب، وجمعه حجور. الحليلة: الزوجة، والحليل الزوج قال:
أغشى فتاة الحي عند حليلها *** وإذا غزا في الجيش لا أغشاها
سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. الصلب: الظهر، وصلب صلابة قوي واشتدّ. وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له: أن الصلب وهو الظهر، على وزن قفل هو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد: الصلب بفتح الصاد واللام. قال: وأنشدني بعضهم:
وصلب مثل العنان المؤدم ***
قال وأنشدني بعض بني أسد
إذا أقوم أتشكي صلبي ***
المحصنة: المرأة العفيفة. يقال: أحصنت فهي محصن، وحصنت فهي حصان عفت عن الرّيبة ومنعت نفسها منها. وقال شمر: يقال امرأة حصان، وحاصن. قال:
وحاصن من حاصنات ملس *** من الأذى ومن فراق الوقس
ومصدر حصنت حصن. قال سيبويه: وقال أبو عبيدة والكسائي: حصانة. ويقال في اسم الفاعل من أحصن وأسهب وأبعج، مفعل بفتح عين الكلمة، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي. وأصل الإحصان المنع، ومنه قيل للدرع وللمدينة: حصينة والحصن وفرس حصان. المسافحة والسفاح: الزنا، وأصله من السفح وهو الصب، يسفح كل من الزانيين نطفته. الخدن والخدين: الصاحب. الطول: الفضل، يقال منه: طال عليه يطول طولاً فضل عليه. وقال الليث والزجاج: الطول القدرة. انتهى. ويقال له: عليه طول أي زيادة وفضل، وقد طاله طولاً فهو طائل. قال الشاعر:
لقد زادني حباً لنفسي أنني *** بغيض إلى كل امرئ غير طائل
ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة. قال: فقد ذهب المروءة والفتاء. وقال ابن منصور الجواليقي: المتفتية والفتاة المراهقة، والفتى الرفيق، ومنه: {وإذ قال موسى لفتاه} والفتى: العبد. ومنه: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي».
الميل: العدول عن طريق الاستواء. {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني: هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا: المساحقة، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن. قال: ونزلت {واللذان يأتيانها منكم} في أهل اللواط. والتي في النور: في {الزانية والزاني} وخالف جمهور المفسرين. وبناه أبو مسلم على أصل له: وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن، وقد كن لا يورثن في الجاهلية، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن، إذ هو نظر في أمر آخرتهن، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني، وأفردهن بالذكر أولاً، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانين في قوله: {واللذان يأتيانها منكم} فصار ذكر النساء الزواني مرّتين: مرة بالإفراد، ومرّة بالشمول.
واللاتي جمع من حيث المعنى للتي، ولها جموع كثيرة أغربها: اللاآت، وإعرابها إعراب الهندات.
ومعنى يأتين الفاحشة: يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة، ويأتي الكلام معه في ذلك، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل: فإن قيل: القتل والكفر أكبر من الزنا، قيل: القوى المدبرة للبدن ثلاث: الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي: أخس هذه القوى، ففسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة. وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} وفي الرجال: {واللذان} ومنكم وظاهره التخصيص، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار. ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا، يكون عليهن لا لهن، وعلى قولنا: يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح. وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين، فكان باطلاً. وأجاب: بأنه قاله مجاهد، فلم يكن إجماعاً وتفسير السبيل بالحديث الثابت: {قد جعل الله لهن سبيلاً}
«الثيب ترجم والبكر تجلد» فدل على أن ذلك في الزناة. وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز. وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله: واللذان يأتيانها منكم، فدل على أنها ليست فيهم. وأجاب بأن مطلوب الصحابة: هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات؟ فلهذا لم يرجعوا إليه. انتهى. ما احتج به أبو مسلم، وما ردّ به عليه، وما أجاب به. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره: أن اللاتي مختص بالنساء، وهو عام أحصنت أو لم تحصن. وإن واللذان مختص بالذكور، وهو عام في المحصن وغير المحصن. فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة، ويؤيد هذا الظاهر قوله: من نسائكم وقوله: منكم، لا يقال: إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في الجاهلية، لأن ذلك كان موجوداً فيهم، لكنه كان قليلاً. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
ملك النهار وأنت الليل مومسة *** ماء الرجال على فخذيك كالقرس
وقال الراجز:
يا عجباً لساحقات الورس *** الجاعلات المكس فوق المكس
وقرأ عبد الله: واللاتي يأتين بالفاحشة، وقوله: من نسائكم اختلف، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب، أقوال. الأول: قاله قتادة والسدي وغيرهما. قال ابن عطية: قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم انتهى. وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} {والذين يظاهرون من نسائهم} وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم، هو قول أكثر المفسرين. وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظاً على المدعي، وستراً لهذه المعصية. وقيل: يترتب على كل واحد شاهدان. وقوله: عليهن، أي على إتيانهن الفاحشة. والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله: أربعة منكم، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا. وإن تعمد النظر إلى الفرج لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا.
وإعراب اللاتي مبتدأ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر، وإن كان لا يجوز زيد فاضربه على الابتداء والخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا، فيكون من باب الاشتغال، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم: وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره: اقصدوا اللاتي. وقيل: خير اللاتي محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين، كقول سيبويه في قوله: {والسارق والسارقة} وفي قوله: {الزانية والزاني} وعلى ذلك جملة سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف، لأنه في موضع الحال من الفاعل في: يأتين، تقديره: كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله: فاستشهدوا، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة، أي: كائنين منكم.
{فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً} أي: فإن شهد أربعة منكم عليهن. والمخاطب بهذا الأمر: أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن؟ أو أولوا الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ، وهو الصحيح، قاله: ابن عباس، والحسن. والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي، لأن ألم الحبس مستمر، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد: منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه. وقال قوم: ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف، وهنا في قوله: قل يتوفاكم ملك الموت. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف، إذ يصير التقدير: حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية. فقيل: هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة، دون الأزواج. وقيل: السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب» رمي بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية، ولا لأنه الجلد، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله: إن السنة لا تنسخ القرآن، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة، بحديث عبادة، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، خلاف قول الشافعي، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم.
{واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية، وغلب المذكر على المؤنث، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو: شهادة أربعة. والأمر بالأذى يدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما.
فقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادة والسدي: هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم: بالفعل دون القول. وقالت فرقة: هو السب والجفا دون تعيير. وقيل: الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين: الجلد والرجم، وهو قول علي، وفعله في الهمدانية: جلدها ثم رجمها.
وظاهر قوله: واللذان يأتيانها العموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم: هي في الرجل والمرأة البكرين، وأما الأولى ففي النساء المزوجات، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ، وإلا في قول من قال: إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده، إذ لا تعارض، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني، والثانية على إيذائها وإيذائه، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء، هذا ظاهر اللفظ. وقيل: جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية، وعقوبة الرجل الإيذاء، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادة والسدي: من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء، فقد اختلف متعلق العقوبتين، فليس الإيذاء مشتركاً. وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة، ثم نزل {فأمسكوهن في البيوت} يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن، وهذا قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي: لا تكرار، وكذلك لا تكرار على قول: مجاهد وأبي مسلم.
وإعراب واللذان كإعراب واللاتي. وقرأ الجمهور: واللذان بتخفيف المنون. وقرأ ابن كثير: بالتشديد. وذكر المفسرون علة حذف الياء، وعلة تشديد النون، وموضوع ذلك علم النحو. وقرأ عبد الله: والذين يفعلونه منكم، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام، ومتدافعة مع ما بعدها. إذ هذا جمع، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية، لكنه يتكلف له تأويل: بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين، كما عاد الضمير مجموعاً على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} {هذان خصمان اختصموا} والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة. وقرئ واللذأن بالهمزة وتشديد النون، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان، ففر القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيهاً لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرئ: {ولا الضألين} {ولا جأن} وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعاً في قوله: ولا الضالين في الفاتحة.
{فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} أي: إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما. والمعنى: أعرضوا عن أذاهما. وقيل: الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد. قال ابن عطية: وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأنّ تركهم إنما هو إعراض. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} وليس هذا الإعراض في الآيتين أمراً بهجرةٍ، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة. انتهى كلامه.
{إن الله كان تواباً رحيماً} أي رجاعاً بعباده عن معصيته إلى طاعته، رحيماً لهم بترك أذاهم إذا تابوا.
{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً} تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر، أهو من حيث الوضع، أو الاستعمال؟ أم دلالة لها عليه؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر، والتقدير: إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون على باقية على بابها. وقال الزمخشري: يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى. وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعاً، وأما قبول التوبة فلا يجب على الله عقلاً وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة، وأفادت القطع بذلك. وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره: إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة، والتوبة فرض بإجماع الأمة، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنب ومن ذنب، وإن أقام على ذنب غيره خلافاً للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة، إذ ذهبوا إلى أنه لا يكون تائباً من أقام على ذنب. وقيل: على بمعنى عند. وقال الحسن: بمعنى من، والسوء يعم الكفر والمعاصي غيره سمي بذلك لأنه تسوء عاقبته.
وموضع بجهالة حال، أي: جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل، إذ ارتكاب السوء، لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل، والعقل يدعو إلى الطاعة، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة، فكل عاص جاهل بهذا التفسير.
ولا تكون الجهالة هنا التعمد، كما ذهب إليه الضحاك. وروي عن مجاهد لإجماع المسلمين: على أنَّ من تعمد الذنب وتاب، تاب الله عليه. وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية هي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وقال الكلبي: بجهالة أي لا يجهل كونها معصية، ولكن لا يعلم كنه العقوبة. وقال عكرمة: أمور الدّنيا كلها جهالة، يعني ما اختص بها وخرج عن طاعته الله. وقال الزجاج: جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية، والحظ العاجل على الآجل. وقيل: الجهالة الإصرار على المعصية، ولذلك عقبه بقوله: ثم يتوبون من قريب. وقيل: معناه فعله غير مصرّ عليه، فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء. وقال الترمذي: جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد، فيكون المراد منه العفو عن الخطأ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه أي: أنه حرام، أو في الحرمة: أي: قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله، لا قصد الاستخفاف به والتهاون به. والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب من بعد ويصير صالحاً، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه. وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه.
ومعنى من قريب: أي من زمان قريب. والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الرّوح. فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت. وقيل: قبل أن يحيط السوء بحسناته، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته، فيبقى كأنه بلا حسنات. وقيل: قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط. وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق. وقال ابن عباس والسدي: قبل المرض والموت. فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة، وذكر من قبله آخر وقتها. وقال ابن عباس أيضاً: قبل أن ينزل به سلطان الموت، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. قيل: وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آتِ، وكل ما هو آت قريب. وتنبيهاً على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، ولأنّ الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب.
وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله، والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء: في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاً من الضمير في قوله: على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير: إنما التوبة إذا كانت، أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكان تامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال: ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي، والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم: هذا بسراً أطيب منه رطباً انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب، غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي: مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. ومن في قوله: من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدئ التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله: فأولئك {عسى الله أن يتوب عليهم}
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيساً. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو: مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو بارداً، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس.
{فأولئك يتوب الله عليهم}، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثاني عليهم، ففسر كل بما يناسبه.
ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال: يعطف عليهم. وفي على الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله: إنما التوبة على الله لهم؟ (قلت): قوله: إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبد الوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم: إنَّ الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك. وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه: إن قوله: إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم. وكان الله عليماً حكيماً. أي عليماً بمن يطيع ويعصى، حكيماً أي: يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.
{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول: كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري: سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أو أنَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف. وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون: إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء.
وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردوداً، والمردود مقبولاً، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.
وقال الربيع: نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء} فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب: بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله: الذين يعملون السيئات، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله: وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفار وارداً على سبيل التغليظ كقوله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وقوله: «فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»، من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، لأنّ من كان مصدقاً ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى لامه. وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين: أحدهما: الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني: الذين ماتوا على الكفر. وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين. أما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر، وعلل هذا الوجه بقوله: لظاهر قوله: وهم كفار، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار، وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله: وهم كفار لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده: فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية، أولاً وكل ذلك انتصار لمذهبه حتى يرتب العذاب: إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر.
لأن قوله: وهم كفار، ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله: ولا الذين يموتون، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة. وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت، وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل: حبك الشيء يعمي ويصم. وجاء يعملون بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعاراً بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت. وظاهر قوله: قال إني تبت الآن، وهو توبتهم عند معاينة الموت فلم تقبل تفسيره، فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع. وقيل: قوله تبت الآن توبة شريطية فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها. وقوله: وليست التوبة ظاهرة النفي لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة. وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار، وقوع الموت حقيقة. فالمعنى: أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا، لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: يموتون، يقربون من الموت كما في قوله: {حضر أحدهم الموت} أي علاماته. فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت.
{أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً. ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور. واسم الإشارة يجري مجرى الضمير، فيشار به إلى أقرب مذكور، كما يعود الضمير على أقرب مذكور، ويكون إعداد العذاب مرتباً على الموافاة على الكفر، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى. وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك.
وقال الزمخشري: أولئك أعتدنا لهم في الوعيد، نظير قوله: {أولئك يتوب الله عليهم} في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى. وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان، ثم ذكر هذا عقيبه، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين، كائن لا محالة، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور، قبل هذه الآية واقع لا محالة، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار، وهذا هو مذهب المعتزلة. ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً به للفاسق.
وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له، فلا يلزم وقوع ما دل عليه، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو. وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق. وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها.
وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري: إلى أن قوله: {للذين يعملون السيئات} في حق المنافقين، واختاره المروزي. قال: فرق بالعطف، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون. كما فرق بينهم في قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا. والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة، لأن المنافقين مندرجون في قوله: {ولا الذين يموتون وهم كفار} فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم. وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر.
{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} قال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وأبو مجلز: كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، أو زوجوها غيرهم، أو منعوها. وكان ابنه من غيرها يتزوجها، وكان ذلك في الأنصار لازماً، وفي قريش مباحاً. وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه، إذا لم يكن ولدها. وقال السدي: إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها، فأذهب الله ذلك بهذه الآية.
والخطاب على هذا للأولياء نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال. والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية، فخرج هذا الكره مخرج الغالب، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها. وقيل: هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها، فيتزوجها كرهاً لأجله. أو تحته عجوز ذات مال، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها، أو تموت فيرث مالها. والخطاب للأزواج، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن، لا هن. وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء، فيقدر باسم فاعل أي: كارهات، أو باسم مفعول أي: مكرهات. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وبفتح الكاف، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين، وهما لغتان: كالصمت والصمت قاله: الكسائي والأخفش وأبو علي.
وقال الفراء: الفتح بمعنى الإكراه، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب، وقاله: أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً. وتقدّم الكلام عليه في قوله: {وهو كره لكم} في البقرة. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا تحل لكم الوراثة، كقراءة من قرأ: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} أي إلا مقالتهم، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات، وإما على حذف مضاف أي: أموال النساء.
{ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن. وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله: ببعض ما آتيتموهن، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق. وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله: ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. أو ينكح الشريفة فلا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت وأرضته أذن لها، وإلا عضلها قاله: ابن زيد. أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك. وقيل: هو خطاب للأولياء كما بين في قوله: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله: {يا أيها الذين آمنوا} فلقوا في هذا الخطاب، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه، فخوطب الأولياء بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، وخوطب الأزواج بقوله: ولا تعضلوهن، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه. وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله: {فلا تعضلوهن} والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية، أي: لتذهبوا بعض ما آتيتموهن. ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن.
{إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} هذا استثناء متصل، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم. وهو استثناء من ظرف زمان عام، أو من علة. كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين. أو لا تعضلوهن لعل

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8